-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

التعليم في الجزائر.. أين الخلل؟

التعليم في الجزائر.. أين الخلل؟

التحق مؤخرا قرابة 13 مليون تلميذ وطالب بمدارسهم وجامعاتهم في الجزائر، منهم نحو نصف مليون متمدرس جديد بالتعليم العامّ وأكثر من 300 ألف منتسب لقطاع التعليم العالي، تستقبلهم أكثر من 30 ألف مؤسسة تعليمية و107 جامعية، في حين تسجل الجامعات 400 ألف متخرج سنويا، وهي بلا شكّ مؤشراتٌ قياسية تجعلنا فخورين من حيث المبدأ بمنجزات الدولة الجزائرية، مع الإشارة إلى أن ميزانية القطاعين تجاوزت 12 مليار دولار خلال موازنة 2023.

إن هذا الكمّ الكبير على صعيد الإنجاز التربوي والجامعي لم يكن ليتحقق لولا السياسة الحكوميّة الاجتماعية المبنية على المجانية والديمقراطية والدعم المطلق لقطاع التعليم بطوريه العامّ والعالي، وقد كانت ولا تزال خيارا حكيما ومحمودا، رغم بعض المساوئ التي تحتاج إلى تفصيلات في مواضع أخرى، لأنّنا شعبٌ عانى من ويلات التجهيل والحرمان من الحق في التعلّم والتكوين الجامعي والثقافة وحتى اكتساب أبسط قواعد القراءة والكتابة بفعل سياسة الاستدمار الفرنسي البغيض، فكان الخيار الثوري هو تسهيل التعليم بكل الطرق أمام أبناء الشعب الجزائري من دون استثناء.

من إشعاع المدارس والجامعات الجزائرية الناشئة عقب استرجاع السيادة الوطنية، نبغ الآلاف من عباقرة العلوم التكنولوجية الدقيقة والإنسانية، مثلما صدّرت بلادنا علماء ومخترعين كبارا إلى مختلف دول العالم، حتى صار اللوامع الجزائريون عبر المراكز البحثية والشركات الدولية أشهر من نار على علم في كثير من التخصصات التقنية والطبية والإنسانية في الداخل والخارج عبر أرجاء المعمورة، ناهيك عن مئات الآلاف من حاملي الشهادات العليا الذين يؤطرون الإدارات والمرافق العامة ويخدمون التنمية في كل المجالات.

لقد تعمدنا التقديم بهذه المعطيات الأساسية قبل طرح التساؤلات الموضوعية والجوهرية حول الواقع، لأنّ الكثير، للأسف، عندما ينتقد التعليم في الجزائر بكل أطواره، يغلب التشاؤم على فكره حتى يكتب بمزاجية تتجاوز الحقائق وتتنكر أحيانا لجهود السلطات العمومية، والتي تبقى -وإن لم تكن منّة على المواطنين- مقدّرة ضمن معايير التقييم، والتقويم المنشود بإخلاص من الجميع ينبني عليها وفق منطق التراكم في صناعة النجاح.

بالمقابل، فإننا كثيرا ما نسمع من المختصين التربويين والشركاء المهتمِّين أن التعليم يعاني من التدهور على المستوى النوعي، وعادة ما تجري في هذا السياق المقارنات بين الأجيال التعليمية والموارد المتاحة سابقا وحاليًا، مع فارق المردود قياسا بالإمكانات المسخرة، ما يفرض تساؤلات مشروعة خلاصتها النهائية: أين الخلل؟

ولعلّ أهمَّ إشكالية تواجه المراقب المحايد بهذا الصدد تتعلق أساسا بمعايير التقييم أصلا في الجزم بتراجع التعليم، وهنا يجدر بنا العودة إلى تحديد وظائفه القاعدية والتخصصية، ليكون الحكم مرجعيّا في ضوئها، إذ ترتبط النتائج في كل عمل بالأهداف المفترضة.

وفي هذه المسألة، نعتقد أنّ المسألة بسيطة لدى كل الأمم، ولا تحتاج في الجزائر إلى اختراع فكري لضبط ماهية المدرسة المرجوة ولا الجامعة المنشودة، إذ يتركز دور الأولى في إعداد النشء الصالح وتتكفل الثانية بالتكوين العالي وتطوير البحث العلمي لقيادة قاطرة التنمية الوطنية، ما يعني أنه يستحيل التطلع إلى بناء حضاري في أي مجتمع بإهمال التعليم أو عدم تقديمه على رأس الأولويات في كل السياسات العامّة.

وعود على بدء، نقرر بكل تجرد أن الدولة الجزائرية رفعت التعليم ضمن الأولويات الوطنية، مع وجود في آن واحد نقائص كثيرة ممكنة التدارك، بمزيد من الإرادة والموارد، لأنّ الأفكار أحيانا متاحة، لكن تجسيدها صعب ماديّا وإدارة الشأن العام غير التنظير من بعيد.

من جهة أخرى، نعتقد أن المشكلة قد تكمن كذلك في طريقة التسيير العام، خاصة حين يتعلق الأمر بالإصلاحات والمناهج والمقررات، لذلك سيبقى استحداث “هيئات عليا” مستقلة ومستقرة تتكفل برسم السياسات التعليمية مطلبًا عقلانيًّا، لأن هذه المهام الخطيرة فوق طاقة مسؤولي الإدارة اليومية للقطاع، إذ تظل أدوارهم الرئيسة هي التنفيذ الفعال في أحسن الأحوال.

ولا يفوتنا التنبيه إلى أنّ المدرسة ذاتها ضحية تحولات اجتماعية وتكنولوجية وكونية كبيرة من حولها، إذ لم تعد وحدها قادرة على صناعة المواطن الصالح، بينما تكاد تكون هي الحلقة الأضعف في مصادر التلقّي التربوي، وهذا يطرح قضية خطيرة تتصل بتراجع رهيب لدور الأسرة أمام الغزو الرقمي والانسحاب العملي للأولياء من المسؤولية، وهذا الأمر لم يؤثر فقط على السلوك الأخلاقي، بل إنه يحدّ بشكل لافت من الاهتمام الدراسي.

الجامعة هي الأخرى ليست بالضرورة متخلفة عن التنمية، لأن مَهمَّتها في هذا الجانب هي ترقية البحث والاختراع، ليأتي لاحقا الدور الاقتصادي والصناعي والتجاري في تجسيد الأفكار الابتكارية، وبفقدان هذه الحلقة ستموت في الأدراج ويضطر أصحابها للهجرة.

عندما نجمع هذه المؤشرات ندرك أن هناك ضعفا يتحمله القطاع التعليمي، مقابل مشاكل كثيرة حمل وزرها من المحيط العام، ما يستوجب التخطيط للإصلاح من منظور شمولي.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!